أقسام المدونة

الأحد، 21 أبريل 2013

الاغتيال كسياسة وما ترتب عليه

الدين الاسلامى دين السماحة والمحبة وليس دين التطرف كما يقول البعض ممن اضل الله ويروى ان حاكم لمصر.. تربع على عرشها فأعاد فيها سيرة فرعون وقال للناس: "أنا ربكم الأعلى!".. أطلق جنونه من عقاله فأفسد في البلاد ونغص معيشة العباد.. عن ذلك الرجل نتحدث.. عن الخليفة الفاطمي المجنون.. عن الحاكم بأمر الله..

الحاكم بأمر الله, تربع على كرسي الخلافة وهو في الحادية عشرة من عمره, بعد وفاة والده "العزيز بالله الفاطمي"؛ ولكنه لم يتولى الحكم فعليًا إلا بعد ذلك بنحو أربع سنوات, بعد أن اغتال الأوصياء عليه وأصبح حاكمًا منفردًا. ولأننا لسنا في محل لسرد السيرة الكاملة للحاكم بأمر الله؛ وإنما لإظهار مواطن فساده حكمًا وفكرًا وسلوكًا, فسأتطرق مباشرة لما أحدثه من فساد في أرض مصر.

الاغتيال كسياسة وما ترتب عليه

من بداية حكمه بادر الحاكم بتدبير اغتيال أهم وصيين عينهما أباه -قبل موته- ليعيناه على الحكم, وهما الخادم برجوان, والشيخ الحسن بن عمار, شيخ قبيلة كتامة المغربية الموالية للفاطميين والتي كانت قد أقامت في مصر. كان اغتيالهما رغبة من الحاكم في التفرد بالحكم, رغم صغر سنه المفرط (15سنة). وقد أتبع قتل شيخ "كتامة" بعملية تقتيل منظمة في كبار رجال تلك القبيلة التي طالما كانت اليد الباطشة لآبائه وأجداده, مدمرًا بذلك قوة كبيرة كانت تحمي ملكه.

لم تكن تلك الحوادث عابرة؛ بل كانت سياسة له أن يقرب القواد والسياسيين ويستفيد من خبراتهم؛ حتى إذا تعاظمت سطوتهم وخشيهم دس عليهم من يقتلهم, مما حوّل الاغتيال عند الحاكم بأمر الله لسياسة حكم مرتبطة بعهده, توارثها بعد ذلك خلفاؤه خاصة في القسم الأخير من العهد الفاطمي؛ مما ساهم في إضعاف دولتهم وهز استقرار مصر بشكل دائم بحكم انغماس الطبقة الحاكمة في المؤامرات, وما ترتب على ذلك من إهمال أحوال البلاد وتعريضها للمجاعات والانهيارات الاقتصادية المتتالية. أي أن مجرد اتخاذ الحاكم بأمر الله سياسة التخلص المستمر من رجاله كلما علوا؛ أدى إلى عملية "تتابع للنتائج" أدت في النهاية لمرور مصر بعدد من أشنع أزماتها الاقتصادية حيث بلغ القحط خلال بعض تلك الأزمات أن أكل الناس الكلاب والقطط والميتات! بينما كان يمكن تجنيب مصر كل هذا لو ترك الحاكم رجاله يركزون في أعمال الحكم وسياسة الدولة للعمل على صالح الرعية بدلاً من التآمر خوفًا على أنفسهم من القتل!

العبث

ربما يثير التندر ذكر بعض أوامر الحاكم بأمر الله, كمنع زرع وأكل الملوخية, وأمر أصحاب الدكاكين بإغلاقها بالنهار وفتحها بالليل, ومنع النساء من الخروج من البيوت, ولكن الواقع أن تلك الأوامر العبثية -لو دققنا النظر بما وراءها- تعكس إصابة المؤسسة الحاكمة ببعض الآفات المدمرة.

فهي أولاً تجعلنا ندرك -مباشرة- أن الحاكم الذي أصدرها ما هو إلا طفل يلهو, ولو وضعنا تلك المعلومة جنبًا إلى جنب مع ما سبق ذكره من دأب الحاكم على التخلص من العناصر القوية في دولته؛ فإننا سنجد نتيجة خطيرة هي أن مؤسسة الحكم تعاني خواءً صارخًا؛ فضلاً عن انفصال شديد بين ما تراه هي ضروريًا من قوانين وأوامر وما يحتاجه الشعب بالفعل! ففي بلد مثل مصر, يتذبذب فيه حال الاقتصاد وفقًا لمنسوب النيل, وتتعرض فيه البلاد لتهديدات الفرنجة من الشمال وتمردات قبائل السودان وهجمات الأحباش في الجنوب, وينتشر فيها التمزق الطائفي بحكم تخبط السياسات الدينية للحكام الفاطميين الشيعة, في بلد كهذا, من المؤكد أن آخر ما تحتاجه أوامر بقلب الليل نهار أو بمنع تلك الأكلة أو هذه!

ثم إن نشر تلك الأوامر الهزلية والعمل على تنظيم تطبيقها ومراقبته ومعاقبة الخارجين عليها يتطلب من حكومة البلاد جهدًا ومالاً ووقتًا كان الأوْلى صرفهم فيما فيه صالح الرعية؛ مما يعني أن في مجرد إصدارها هدرًا لطاقات الدولة, وهو أحد أوجه فساد الحكم؛ بالإضافة لحقيقة تتضح من هكذا تعليمات وقوانين هي أن من يحكم البلاد قد بلغ مرحلة من الانفصال عن الواقع السياسي والاجتماعي لدولته جعله يعتبر أن الملوخية وفتح المحال بالليل أو النهار من مسائل الأمن القومي.

أما آخر مضار ذلك العبث فقد تمثلت في التضييق على الناس؛ فمن المؤكد أن قلب الليل نهار بالنسبة للدكاكين كانت له مضاره المادية على من يتعارض ذلك الأمر بالنسبة لهم مع احتياجاته المعيشية التي لا تُقضَى إلا بنهار, وحبس النساء في بيوتهن أدى لإضرار شديد بمن كانت منهن بلا رجل يقضي لها حوائجها بالذات لو كانت عجوز أو مقعدة..

دموية ووحشية

ولأنه زوّج جنونه من سلطته؛ فقد ولد هذا وتلك دموية ووحشية مفرطتين, ظهرت مظاهرهما في مسلسل قتله لكل من يخشى -لمجرد الشك- خروجه عليه, أو في أنه كان إذا غضب لم يعف ولم يصفح؛ بل يبادر بتوقيع أشد العقاب في الحال.

وقد امتدت تلك النار لعامة الشعب, فقد كان الحاكم يحب الطواف في الشوارع على حماره ليرى أحوال الناس, وقبل أن يظن القارئ أن في ذلك الخروج مظهرًا من "صلاح" الحاكم, أسارع بتنبيهه أن ذلك كان وبالاً على الرعية؛ فقد كانت عقوبات الحاكم بأمر الله لمخالفة تعليماته -أو القوانين بشكل عام- غير متناسبة من حيث قسوتها المفرطة مع الجرم.

فالسرقة عنده كانت عقوبتها الشنق بلا هوادة, وكذلك إنكار المدين وجود مال للدائن عنده, عاقب عليه بأن شنق المدين على باب بيته, وعندما أمر بعدم خروج النساء من بيوتهن ومنعهن من الذهاب للحمامات الشعبية -حيث اعتدن الاستحمام والتطهر هناك- ووجد بعض النسوة قد خالفنه ودخلن حمامًا, أمر بإغلاقه عليهن حتى متن فيه مختنقات. أما الطامة الكبرى فقد كانت في ما يتعلق بالغش التجاري؛ فقد كان الحاكم يصطحب معه في جولته عبده الأسود "مسعود" وكان حين يطوف بالدكاكين في الأسواق ويجد رجلا يغش في تجارته يأمر مسعودًا أن يفعل بالتاجر فعل اللواط على الملأ في التو والحال!

وحشية عقوبات الحاكم بأمر الله قللت من معدل الجرائم, حتى أن الناس كانت تجد الدنانير الذهبية ملقاة أرضًا فتتركها حيث هي خوفًا من الاتهام بالسرقة؛ ولكنه مع ذلك لم يحقق الأمان المنشود, فقد أمن الناس بعضهم بعضًا في نفس الوقت الذي سكنهم فيه الرعب من حاكمهم!

أما الجريمة الكبرى فكانت حين أراد بعض أهالي مدينة الفسطاط السخرية من الحاكم فصنعوا دمية على هيئة امرأة بالحجم الطبيعي, وجعلوا في يدها ورقة بها سباب في الخليفة ووضعوا الدمية في طريق يمر به يوميًا. فعندما رآها وقرأ الورقة أمر بقتل المرأة, ثم أدرك أنها دمية فعاد إلى قصره وأرسل عبيده السودانيين يحرقون المدينة ويدهمونها ويعتدون على بيوتها. فهجم العبيد على البيوت ونهبوها وقتلوا أهلها واغتصبوا النساء, وأحرقوا ثلثيّ البلد؛ فرأى الجنود الأتراك -وكانوا من أهم عناصر جيش الفاطميين- ذلك فتعاطفوا مع الشعب وخرجوا للشوارع للدفاع عن الناس ضد عدوان عبيد الخليفة. ووقف الخليفة في أعلى مكان بقصره يشاهد ما يجري في البلد وهو يظهر البكاء ويقول بـ"براءة": "من أمر هؤلاء العبيد بفعل هذا؟" ويُظهِر التأييد للجند التركي في دفاعهم عن العامة؛ بينما هو يرسل السلاح سرًا لعبيده ويحثهم على المزيد من القتل والتدمير!

انتهاكات بحق أهل الذمة

وأهل الذمة لم يسلموا من أذى الحاكم؛ فقد كانت أوامره المفاجئة المتعنتة تداهمهم كالقضاء! فقد أمر يومًا أهل الذمة في مصر باعتناق الإسلام وإلا قتلهم جميعًا, في مخالفة صارخة لمبدأ "لا إكراه في الدين" الذي أقره القرآن ودعمته السنة, ثم بعد ذلك بفترة وجيزة ألغى أمره وسمح لمن أسلموا كرهًا أن يعودوا لأديانهم؛ فعاد معظمهم. ثم كان أحيانًا يهدم كنائس النصارى ومعابد اليهود ويحولها لمساجد, ويعود بعدها يهدم تلك المساجد ويعيدها كما كانت معابد وكنائس. كما أمر أهل الذمة جميعًا بأن يعلقوا في أعناقهم رموزهم الدينية لتمييزهم عن المسلمين, وجعل لتلك العَلاَمات أوزانًا محددة, كانت ثقيلة جدًا على العنق بشكل آذى الذميين الذين أمرهم بارتداء تلك الأثقال حتى عند الدخول إلى الحمامات!

اضطهاد أهل السُنة

الفاطميون كانوا شيعة رافضة, ولكن الحاكم بأمر الله بالذات كان أشدهم تعصبًا لمذهبه وبغضًا للسنيين؛ ففي عهده شاع انتهاك حقوق أهل السُنة بشكل صارخ؛ فقد شدد الحاكم الأمر بكتابة سباب الصحابة "أبو بكر وعمر وعثمان وعائشة وطلحة والزبير وعمرو بن العاص ومعاوية" -رضي الله عنهم أجمعين- على جدران المساجد وفوق الأضرحة والقبور, وأمر بسبابهم من فوق المنابر في الخطب والصلوات, وعاقب من أظهر حبهم بالتشهير والصلب. ثم امتد عبثه للصلوات فمنع صلاتيّ الضُحى والتراويح, وغيّر مواقيت الصلاة فجعلها حسب المزولة العربية لا التوقيت الشمسي؛ فكانت صلاة الظهر تقام في الساعة السابعة والعصر في التاسعة, وهكذا! صحيح أنه قد أمر بعد فترة بإبطال نسبة لا بأس بها من تلك الأوامر, ولكن مجرد استباحتها والتشدد في تطبيقها يظهر عمق فساد فكره.

الحاكم الإله

منذ عام (403هـ-1013م) بدأ الحاكم بأمر الله يدخل في مرحلة من التصوف والزهد؛ فأمر بإبطال مظاهر السيادة الخلفية له, كالمواكب ودق الطبول, وارتدى الثياب الخشنة وأظهر الورع والتقوى, رغبة منه التقرب من الشعب المصري المعروف بالتأثر بتلك المظاهر، تزامن ذلك مع قدوم بعض أتباع المذهب الشيعي الإسماعيلي إلى مصر, فتأثروا بما يظهره الحاكم من مظاهر التقشف والورع؛ فمن هنا بدأت مرحلة تأليهه! ظهر بين هؤلاء رجل اسمه "حسن بن حيدرة الفرغاني" ادعى أن الحاكم بأمر الله هو تجسيد بشري للإله, وأسقط اسم الله وأنكر النبوة والتشريعات والتنزيل السماوي, ووقف في قلب جامع عمرو بن العاص وأعلن ذلك, فهاج عليه الناس وقتلوه. ثم تلاه رجل اسمه "محمد بن إسماعيل الدرزي" وكانت دعوته تقول بأن الحاكم بأمر الله هو خالق العالم وأنه تجسيد الإله, وجعل له كتابًا كالقرآن سماه "الدستور"؛ فأعجب به الحاكم وقربه منه، وجعله أعلى رجال دولته والمتحكم بالوزراء والقادة. وكان الحاكم قد أمر الناس عند سماع اسمه -أي الحاكم بأمر الله- في الخطب وهم جلوس أن يقوموا تعظيمًا له, وإن سمعوها وهم وقوف أن يسجدوا له, وكان الرجل منهم إذا لقي الحاكم يحييه بقوله: "يا محيي يا مميت يا واحد يا أحد", وكانت تلك الأوامر هي السبب في صنع أهل الفسطاط دمية المرأة سالفة الذكر.

ثار الفقهاء وأهل مصر على "محمد بن إسماعيل الدرزي" وطالبوا الحاكم بتسليمه لهم لمعاقبته, فساعده الحاكم على الهرب إلى جبال لبنان وأمده بالأموال وأمره بنشر الدعوة في الشام, فسافر إلى مدينة "بانياس" الشامية وبدأ دعوته التي أصبحت نواة للديانة المعروفة بـ"الدرزية" المنتشرة الآن في لبنان وسوريا, والتي تقول بألوهية الحاكم بأمر الله وعودته في آخر الزمان. وهم حتى الآن منتشرون في الشام, ومنهم شخصيات بارزة, كالفنانين فريد الأطرش وأسمهان, وكسلطان باشا الأطرش الثائر السوري خلال الاحتلال الفرنسي للشام, والسياسي اللبناني وليد جنبلاط والإعلامي السوري فيصل القاسم.

وكانت المهزلة الكبرى حين حاول الحاكم نقل الحج من مكة إلى مصر, فحاول سرقة أجساد الرسول -عليه الصلاة والسلام-والخليفتين أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- ونقلهما لمصر وبناء مشهد لهم يطاف حوله بدل الكعبة! ولكن -بالطبع- انفضح تدبيره وفشل.

نهاية الطاغية

امتد أذى الحاكم للجميع بلا استثناء, أهل الذمة والمسلمون, الرعية والطبقة الحاكمة, وحتى أخته "سِت المُلك" اتهمها في شرفها، وكاد أن يقتلها؛ وذلك لأنها كانت تحاول رده عن جنونه وتنبيهه لخطورة أفعاله على الدولة, فسارعت بتدبير قتله مع بعض رجال القصر. وفي يوم, وبينما كان الحاكم بأمر الله راكبًا حماره على جبل المقطم ينظر في النجوم -لاهتمامه بالتنجيم وقراءة الغيب- بادره بعض العبيد بسيوفهم فقَطّعوه. وعندما طالت غيبته بعث رجاله من ينظره؛ فوجدوا ملابسه ممزقة دامية ولم يجدوا له جسدًا. وأعلنت أخته موته ونوديَ بابنه "الظاهر لإعزاز دين الله" خليفة تحت وصاية عمته "ست المُلك"؛ لأنه كان صبيًا صغيرًا.

تلك نهاية كانت تليق بشخصية جنونية متألهة كالحاكم. ولتزداد جنونية الصورة فإن المؤمنين بألوهيته -آنذاك- قد أنكروا موته وقالوا بعودته في آخر الزمان.

الحاكم كان فسادًا وجنونًا يمشي على قدمين, ذهب ورحل إلى حيث ألقت.. ولكن للأسف, ترك جنون العظمة والقوة الغاشمة وتأليه الذات سُننًا توارثها قوم آخرين.. فالأسماء تختلف, ولكن الأفعال قد تتشابه!

                                                                      (يتبع)

مصادر المعلومات

-1-تاريخ الفاطميين: د.محمد سهيل طقوش.
-2-ملامح القاهرة في ألف سنة: جمال الغيطاني.
-3-تاريخ المذاهب الإسلامية: الإمام محمد أبو زهرة.
-4-الفاطمية دولة التفاريح والتباريح: جمال بدوي.
-5-النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: ابن تغري بردي.
-6-الفرق والجماعات الدينية: د.سعيد مراد.
-7-بدائع الزهور في وقائع الدهور: ابن إياس.
-8-أهل الذمة في مصر: د.قاسم عبده قاسم.
-9-البداية والنهاية: ابن كثير.