أقسام المدونة

الأحد، 21 أبريل 2013

هل للفتنة الطائفية فن فى مصر ؟


جريمة استهداف المسيحيين في الخصوص وفي جنازة ضحاياهم‏،‏ وقصف الشرطة للكاتدرائية القبطية‏، ليست مجرد تصعيد لما رأيناه في كل الجرائم الطائفية على مدى أربعة عقود، وإنما مظهر من مظاهر هدر أسس دولة المواطنة، وحصاد فكر ونهج وحكم يميز بين المصريين بسبب الدين.

ولن يثمر تعميق هذا التمييز الديني سوى تكريس أسباب الاحتقان والفتن والجرائم الطائفية، التي يغذيها انفلات خطاب تحريض ديني، يعتبر المخالف للإخوان وحلفائهم من السلفيين والجهاديين معاديا للإسلام والتشكيك في عقيدته وتكفيره، ويبرر استحلال العدوان على حقوق المواطنة والإنسان للمسيحيين والمعارضين واستباحة أموالهم وأعراضهم ودمائهم وأرواحهم. وقد تفاقمت أسباب التمييز والتكفير والتحريض مع إنكار وإهدار قيم الوطن والوطنية والمواطنة في سياق صعود مشروع استهداف إحياء دولة الفقهاء والخلافة، الذي يرى المصريين رعايا لا مواطنين لهم كامل حقوق المواطنة دون تمييز وتهميش أو إقصاء وانتقاص، ويرى مصر أقدم دول العالم ولاية لا دولة وطنية ذات سيادة، وينكّس راية الأمة المصرية أعرق أمم الدنيا رافعا لواء الدعوة إلى إحياء دولة الخلافة العالمية الموهومة التي تخطاها التاريخ ويناقضها الواقع.

ولن تتم تصفية أسباب الاحتقان الطائفي بغير اقتلاع جذوره الثقافية العميقة وإعلاء قيم التسامح واحترام المختلف دينا ومذهبا وعقيدة وفكرا مع الإسلام السُنّي، وتعديل وإعادة صياغة ديباجة ومواد الدستور المعيب والمختطف بليل، بحيث يصدر باسم الأمة المصرية ويستهدف بناء دولة المواطنة، وتعديل التشريعات وإصدار ما يلزم منها وتطبيقها بما يؤكد فعلا وليس قولا مبدأ أن المواطنين سواء أمام القانون.

وكما لم يعد مقبولا استمرار تزييف تاريخ الأمة المصرية العريق، لم يعد ممكنا استمرار التباطؤ في إصدار تشريعات مكافحة التحريض الديني، ومنع ازدراء الأديان، وتنظيم بناء دور العبادة من جهة، وجعل أجهزة الأمن في خدمة الشعب لا النظام لتكف عن أن تكون أداة قمع للمعارضين وقهر للمستضعفين، وتنهض بوظيفتها في توفير الأمن والأمان لجميع المواطنين، من جهة أخرى. واستنادا إلى ما نشرته قبل وبعد ثورة 25 يناير، أكتفي هنا بإعادة تأكيد ثلاث حقائق؟

الحقيقة الأولى: أن ما أثارته جماعة الإخوان من ضجيج ضد النص على مبدأ المواطنة، في المادة الأولى من الدستور مع تعديلاته في عام 2007، كشف أنها لا تقبل باجتهادات أقرّت بالمساواة بين المسلمين وغيرهم من المواطنين في الولايات العامة، وفسّرت المرجعية الإسلامية باعتبارها إعلاء لمقاصد الشريعة في دولة مدنية، ودعوة الجماعة إلى تحديد مفهوم المواطنة درءا للالتباس، بزعم أنها تنذر بوضع الولاء للوطن في مواجهة الولاء للعقيدة، تخلق التباسا لا يجوز بين الانتماء إلى الوطن والولاء لمصالحه العليا والإيمان بالدين والالتزام بمقاصد شريعته!

وصيغة "إما الدين وإما الوطن" لم يقل بها أحد، وإنما اختلقها متحدثون باسم الجماعة، وتجعل الانتساب إلى إحدى جماعات الإسلام السياسي والانصياع لفقهها في تضاد مع الانتماء إلى الوطن والولاء لمصلحته. ومبدأ المواطنة لا يخشاه إلا من يعمل على تكريس مناخ الاحتقان والفتنة الطائفية! ويتطلع إلى بعث خلافة أهدرت معظم تاريخها حقوق المصريين، مسلمين وغير مسلمين! ويجهل أن المواطنة ملازمة لرابطة الجنسية في الدولة الوطنية الحديثة! وينكر أن مواطني مصر مسلمين ومسيحيين كلاهما مكوّن أصيل في النسيج الوطني المصري، وليس بينهم وافدون أو ضيوف، كما يزعم البعض الجاهل. (علاقة الدين بالدولة في حوار المواطنة، الأهرام 11 مارس 2007).

والحقيقة الثانية: أن شعار المصريين العظيم الدين لله والوطن للجميع لم يكن وليد ثورة 1919، بل كان أساس تكوين مصر قبل أكثر من خمسة آلاف وأربعمائة سنة، حين أقام المصريون رغم تنوع معتقداتهم الدينية أول دولة مركزية وأول أمة موحّدة في التاريخ، فقد كان قبول واحترام الآخر المختلف دينيا ركيزة الوحدة بين الصعيد والدلتا، أو ما سماه الآباء المؤسسون القطرين أو الأرضين، واستمرت وحدة تاجي قسمي مصر لا تنفصم، وكان تعايش أصحاب المعتقدات المتباينة هو الأساس المتين لرسوخ وحدة مصر الفريدة، سياسيا واجتماعيا ووطنيا وثقافيا.

ومهما أوغلنا في القدم نجد المصريين القدماء قد عاشوا كشعب يسيطر النظام على علاقاته الاجتماعية، ويعتبرون اضطراب هذا النظام جرما. وأنتجت كل مرحلة من مراحل تاريخ المصريين الطويل معتقدات دينية جديدة عاشت بجانب القديمة. وكما يوجز سيمسون نايوفتس في كتابه مصر أصل الشجرة، فقد آمن المصريون قبل الأديان السماوية بالإله الواحد الذي صارت كل الآلهة صورا له، ليواصلوا وحدتهم الوطنية رغم تنوع معتقداتهم. (الدين لله والوطن للجميع أساس تكوين مصر، الأهرام، 2 مارس 2010).

والحقيقة الثالثة: أنه ينبغي -في سياق تعزيز قيم وثقافة المواطنة- أن ينص الدستور على حظر تشكيل أحزاب على أساس ديني أو طائفي، من حيث العضوية والبرنامج والأهداف والنشاط، لكنني لا أفهم حظر تأسيس أحزاب مدنية ذات مرجعية دينية تستلهم برامجها من القيم الدينية باعتبارها المرجعية الثقافية المهيمنة، ما دام الدستور نصا وروحا يحول دون أن يفرض أي من هذه الأحزاب تفسيره لهذه المرجعية على المجتمع، وما دامت تتوافر آليات تحول دون تعديل أو تغيير الدستور وفق الإرادة المنفردة لمثل هذه الأحزاب إن وصلت إلى الحكم عبر انتخابات حرة.

إن الجدال حول علاقة الدين بالدولة قد عاش معنا منذ مناقشات إعداد دستور 1923، وربما يبقى طويلا، وهو ما نراه في أعرق الدول الديمقراطية، فقد نص التعديل الأول للدستور الأمريكي في عام 1791 على الفصل بين الدين والدولة، ولم يتم التوصل إلى إجماع وطني أمريكي على تطبيقه إلا بعد 77 عاما، ولم تؤكد المحكمة العليا الأمريكية عدم دستورية أي قوانين يمكن أن تفسر على تبني الدولة دينا معينا إلا عام 1947 (علاقة الدين بالدولة في حوار المواطنة، الأهرام 11 مارس 2007).