أقسام المدونة

الأحد، 21 أبريل 2013

القاديانية . عندما هرب المسيح الى الهند


الهند.. سنة 1857م..

سلطات الاحتلال البريطاني تتمادى في انتزاع آخر مظهر لاستقلال الهند بإعلانهم للسلطان بهادور شاه الثاني أنه آخر سلطان يسكن "القلعة الحمراء" -مقر الأسرة المالكة المغولية في الهند- وأنها ستتحول بعد موته إلى ثكنة عسكرية بريطانية.. فيثور مسلمو الهند ويلتفون حول سلطانهم -الرمز الأخير للمملكة العتيدة التي أقامها المغول المسلمون في بلاد الهند- ويصطدمون بقوات الاحتلال التي تتصدى للثورة بعنف ووحشية وتنفي الملك وأسرته وتعلن الهند مستعمرة بريطانية تابعة للتاج الفيكتوري! فتبدأ الحركة الوطنية الهندية في التكوّن والتشكّل.. ويبدأ عهد طويل من الصراع لأجل الاستقلال ويقترب القرن التاسع عشر من نهايته مع آمال بقرن أفضل.. ووسط تلك المرحلة الحرجة.. يظهر مفسد جديد في الأرض.. يشعل فتنة تهدد وحدة الصف المسلم في الهند؛ بل ووحدة الهنود جميعًا! تحت اسم دعوة لدين جديد اسمه "القاديانية"..

ميرزا غُلام أحمد.. مؤسس القاديانية

وُلد سنة 1839م في قرية قاديان بولاية البنجاب الهندية -ومن هنا نال لقبه "القادياني" الذي صار اسماً لعقيدته- لأب طبيب بارع تعلّم منه الطب, ثم تعلّم اللغة العربية والقرآن والعلوم الدينية. وكان "ميرزا" غلامًا مولعًا بالقراءة في الفلسفة والديانات والعقائد والمنطق والأدب, وخاض منذ شبابه العديد من المجادلات والمناقشات الفكرية الكلامية العميقة.

عاش حياته في فقر وتقشّف.. ثم تبدّل حاله بعد أن بدأ في نشر دعوته؛ وذلك لأن الأموال انهالت عليه ممن آمن به, وكذلك حظي بدعم السلطات البريطانية المحتلة لبلاده.

ولأن الهند آنذاك كانت تُعاني من انتشار الجهل والفقر والمرض، ولأنها كذلك كانت موطن عشرات العقائد والأديان, ولأن أغلب تلك الأديان والعقائد كانت تقوم على فكرة تناسخ الأرواح وحلول الآلهة بالبشر والحيوان؛ فقد كان من الطبيعي أن تجد الديانة الجديدة أرضًا خصبة لدى الكثير من الهنود؛ خاصة وقد دعمت سلطة الاحتلال البريطاني الدعوة القاديانية لأسباب نذكرها لاحقًا.

بدأ الأمر بأن اكتشف ميرزا غلام قبرًا لولي اسمه "يوسف أساف" فادّعى أنه قبر المسيح -عليه الصلاة والسلام- وقال: إن المسيح لم يُصلب كما قال المسيحيون ولا رُفِعَ كما قال المسلمون؛ بل هرب إلى الهند، وعاش بها حتى مات في سنة المائة وعشرين.

كما ادّعى ميرزا غلام أن روح المسيح قد حلّت به؛ بل وروح الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- وأنه قد تلقّى رسالات ربه وبُعث نبيًا!
استشهد ميرزا غلام بالحديث الشريف القائل بأن أمة الإسلام يُرسل لها الله كل مائة عام مَن يرفع شأنها, وقال: إنه هو رجل المائة عام الأخيرة, وأن على مَن يُؤمن بالله وكتبه ورسله أن يُؤمن به؛ وإلا أصبح مكذبًا بآيات الله "عز وجل", ومخالفًا للأمر الإلهي للمؤمنين بأن لا يُفرّقوا بين أحد مِن رسل الله، كما أعلن استنكاره لقول الناس بأن رسالة الله لخلقه يمكن لها أن تنتهي.

الرجل كان خبيثًا داهية؛ فلم يعلن مسألة "النبوة والرسالة" دفعة واحدة؛ بل بدأ الأمر بادّعائه أنه يتلقى "إلهامًا إلهيًا" شأن الأولياء, ثم واحدة بواحدة بدأ يُمهّد لدعوته، ثم استغل علمه المُسبق -من خلال درايته بعلم الفلك- بوقوع خسوف للقمر وكسوف للشمس في شهر رمضان 1312هـ - 1894م, وقال: إنهما سيقعان بمثابة معجزتين لنبوته, وأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- إذا كان القمر قد خُسف لأجل رسالته (يعني معجزة انشقاق القمر)؛ فإنه قد خُسف لأجله جرمان سماويان: الشمس والقمر!

تلاعب بالقرآن والسُنة

تضمّنت عقيدة ميرزا غلام كمية ضخمة من التلاعبات بالقرآن والسُنة.. فالرجل لم يعترف أنه قد جاء بدين جديد خارج عن ملة المسلمين كما فعل الدروز والبهائيون؛ بل اعتبر أن دينه مكمّل للإسلام, وأخذ يتلاعب بمكوّنات الدين الإسلامي؛ ليقنع الناس بصدق دعوته، وليدعم موقفه أمامهم؛ فأولاً قام بتأويل وصف الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- بأنه "خاتم الأنبياء" بأن هذا لا يعني أن محمدًا آخر الأنبياء؛ بل يعني أنه "خاتمهم" أي "خِتمَهُم وعلامتهم".

وقال ميرزا إن هذا يعني أن ثمة أنبياء بعد محمد؛ ولكن لتتحقق نبوتهم فعليهم أن يحملوا فيهم "ختمه".

كما أنكر أن يكون الحرم الثالث في مدينة القدس، وقال: إن الحرم الثالث هو قريته "قاديان"، وأنها المعنية بـ"المسجد الأقصى"، وأن المسيح -عليه الصلاة والسلام- ينزل فيها في آخر الزمان.

كما أنكر رفع المسيح، وأنكر ميلاده من السيدة مريم العذراء -عليها السلام- بغير أب، وقال: إن يوسف النجار (هو رجل صالح كان خطيب العذراء قبل أن تتلقى الوحي بحملها بالمسيح، وهو الرجل الذي اتهمها اليهود بالزنا معه حين أتتهم بالمسيح طفلاً في مهده) هو أبو المسيح.

ثم بلغت جرأته أن بدأ في القول في ذات الله تعالى؛ فقال إنه -عز وجل- ينام ويصحو ويُخطئ ويُصيب ويُصلي ويصوم!

هذا فضلاً عن عشرات الافتراءات على الله وعلى دينه وقرآنه؛ تضمنتها خطبه وكتاباته مثل "براهين أحمدية" وهو كتابه الأشهر والأهم و"إعجاز أحمدي" -الذي مدح فيه نفسه وادعى أنه إمام آخر الزمان الذي يملأ الأرض عدلاً، وفضّل نفسه فيه على الحسن والحسين ابني علي رضي الله عنهم، و"الاستفتاء" الذي تحدّث فيه عن كلامه مع الله، و"حجة الله" الذي أعلن فيه إسقاط فريضة الجهاد وتحريمها, ودعا للولاء للإنجليز, وهي الدعوة التي دعمه الاحتلال البريطاني بسببها.

دعم سلطات الاحتلال للدعوة

حظي ميرزا غلام بما يمكننا اعتباره "تدليلاً" من سلطات الاحتلال؛ فقد أضفَت عليه السلطات حمايتها من الثائرين ضد دعوته, وبرأته المحكمة أكثر من مرة من الدعاوى المقامة ضده من خصومه, رغم توافر أدلة إدانته, وسمحت له السلطات بمزايا مفرّط فيها لتسهيل قيامه بمهمته؛ بل سعت لاستصدار قانون صارم يسمح لكل من له عقيدة بنشرها والتبشير بها كما يشاء, ومنعت أي تعرض له. وهو في المقابل رد "الجميل" بأن انحاز للحكومة البريطانية ضد الحركات الوطنية الهندية الناشئة.

ثمة أسباب عدة لدعم البريطانيين للدعوة القاديانية؛ لعل أهمها أن تلك العقيدة تضمّنت تثبيطًا للهمم عن مقاومة الاحتلال بما أعلنه من سقوط فريضة الجهاد بل وتحريمها, وتمادى فقال: إن من يرفعون السيف بدعوى الجهاد غير مؤمنين, وقال بالعبارة الصريحة: "لقد ظللت منذ حداثة سني -وقد ناهزت الستين الآن- أجاهد بلساني وقلمي لأرق قلوب المسلمين إلى الإخلاص للحكومة الإنجليزية والنصح لها, والعطف عليها, وأنفي فكرة الجهاد التي يدين بها بعض جهال المسلمين، والتي تمنعهم من الإخلاص للإنجليز, وأنا مؤمن أنه كلما كثر عدد أتباعي قلّ شأن الجهاد. ويلزم من الإيمان بي وبأني المسيح والمهدي إنكار الجهاد. وقد ألفتُ كثيرًا في تحريم الجهاد ضد الإنجليز الذين أحسنوا إلينا والذين تجب علينا طاعتهم بكل إخلاص".

هكذا بكل تبجح قالها ميرزا غلام أحمد؛ فكسب دعم وتعاون سلطات الاحتلال التي أتتها القاديانية فرصة على طبق من ذهب لتدجين مسلمي الهند الذين كانوا يشكلون قوة ضاربة يُخشَى انفجار ثورتها في أي وقت.. فكانت دعوة ميرزا غلام بمثابة تفتيت لعنصر هام من القوة الوطنية.

السبب الثاني للدعم البريطاني للدعوة الجديدة هو أنهم رأوا فيها حليفًا قويًا مع البعثات التنصيرية البريطانية في الهند, تلك البعثات التي لم يكن هدفها الحقيقي "هداية الهنود الوثنيين لعبادة الله"؛ بل كان "أنجلزة" المواطن الهندي -لو صَح هذا التعبير- وإخراج الهند من دائرة "الدول الإسلامية"؛ مما كان يعني إفقاد أية حركات وطنية مسلمة دعم الدول الإسلامية.. بتحويل مسلميه إلى المسيحية البروتستانتية أو إلى القاديانية, وكانت تلك مهمة عسيرة على البعثات التبشيرية وحدها لكثرة مسلمي الهند؛ خاصة أنها وباكستان لم تكونا قد انفصلتا بعد.

أما السبب الآخر -وليس الأخير- لذلك الدعم القوي؛ فكان إشغال الهنود -بالذات المسلمون- بنزاع داخلي يستنزف طاقاتهم؛ خاصة مع علم دهاة رجال الاحتلال بأن عاطفة الدين هي الأقوى لدى المسلم، وأنه كثيرًا ما قد يبديها على عاطفته الوطنية؛ فكان من شأن ذلك ضمان تحييد المسلمين الهنود خارج الحركة الوطنية لفترة كافية لإحكام الاحتلال سطوته في البلاد؛ وذلك السبب هو الأهم؛ فالبريطانيون كانوا يدركون -بالتأكيد- أن القوى الإسلامية كفيلة بدحر ميرزا غلام وأتباعه؛ ولكنهم –أي رجال الاحتلال- لم يكونوا يرغبون سوى في "فترة تحييد مؤقتة" للحركة الوطنية المسلمة لحين توطيد بريطانيا أقدامها في الهند.

واجه ميرزا غلام مقاومة شرسة من كبار رجال الدين والمفكرين المسلمين مثل "محمد علي الونكيري" -مؤسس بذرة العلماء المسلمين بالهند- والشاعر محمد إقبال الذي وصف القاديانية بأنها "ثورة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومؤامرة على الإسلام والمسلمين"، ووجه رسالة لصحيفة Statesman يفضح فيها القاديانية، ويحذر المسلمين منها, وانطلقت أقلام وألسنة كبار رجال الدين للتصدي لميرزا غلام وبدعته وتحذير الهنود منه.

ميرزا لم يستطِع أن يقف في وجه ذلك السيل المنهال نحوه من الغيورين على دينهم ووطنهم؛ فسارع بنشر رسالة بعنوان "الصلح خير" دعا فيها خصومه لعقد هدنة معه مدتها عشر سنوات ينتظرون جميعًا فيها "عدالة السماء" التي تحكم من المخطئ ومن المصيب.. ولكن طلبه وُوجه بالرفض, وسرعان ما وجد نفسه يترنح تحت ضربات المنطق السليم والعقل المنظم؛ فانغمس في حياة الترف والرخاء التي وفرتها له الأموال المتدفقة عليه من المؤمنين به وبعقيدته, وبالغ في ذلك حتى اكتسب حنق بعض أتباعه, ثم مات سنة 1908 إثر إسهال مزمن شديد؛ ليتولى أتباعه بعده انتخاب خليفة له, ومازال القاديانيون حتى الآن يتخذون لهم خليفة تلو الآخر.. في انتظار آخر الزمان!
ختام

الفساد في الأرض لا ينتهي.. ما دامت الأرض ومادام الفساد ومادام بين هذا وذاك إنسان يسعى.. هي سُنة الحياة, ولولا وجود الفساد ما قدّرنا قيمة الصلاح.. وما سعينا في الأرض للإصلاح.. فهو بمثابة الشر الذي لا بد منه..
شَر لا ينتهي.. ولن ينتهي.. ولكن مادام أن هناك من يَبني باليمين ما يهدمه هؤلاء باليسار؛ فسيبقى دائمًا المفسدون في الأرض هم الخاسرون..

                                                                           (تمت)


مصادر المعلومات
1- الحركات الهدامة: مسعود كريم / خليل إبراهيم حسونة.
2- تاريخ المذاهب الإسلامية: الإمام محمد أبو زهرة.
3- الفرق والجماعات الدينية في الوطن العربي قديمًا وحديثًا: د.سعيد مراد.
4- المدخل في تاريخ الأديان: د.سعيد مراد.
5- تاريخ مغول القبيلة الذهبية والهند: د.محمد سهيل طقّوش.